{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)}.التفسير:الناس ثلاثة: مؤمنون، وقد بدأت السورة بذكرهم. وكافرون، وهم المذكورون في هاتين الآيتين. ومنافقون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، سيجيئ ذكرهم بعد هذا.ويلاحظ أن القرآن ذكر هنا كلمة {المتقين} في مقابل الكافرين، ولم يقل المؤمنين، وذلك أن من شأن الإيمان الصحيح أن يبلغ بصاحبه منازل المتقين.والذين كفروا المذكورون في هذه الآية، ليسوا مطلق الكافرين، بل هم كفار مكة، الذين حادّوا اللّه ورسوله، وأشربوا في قلوبهم الكفر، وعلم اللّه أنهم لن يستجيبوا للرسول، كأبى جهل، وعتبة بن ربيعة وغيرهما ممن مات على الكفر في غزوة بدر وأحد، من قتلى قريش.. فهؤلاء قد حكم اللّه عليهم هذا الحكم: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ.. لا يُؤْمِنُونَ..} وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في سورة يس: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}.وإلا فلو كان المراد بالذين كفروا في هذه الآية مطلق الكافرين، لما كان لدعوة الرسل حكمة، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين، فيستجيب لهم من يستجيب، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم.. أما تيئيس الكافرين مطلقا، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا، فذلك بعيد عن حكمة اللّه في ابتلاء الناس واختبارهم، وإقامة الحجة عليهم، بإرسال الرسل إليهم.. {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [42: الأنفال].وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، وَعَلى سَمْعِهِمْ، وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا، بما قام في كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز، فقد {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ}.والختم على الشيء وضع خاتم عليه، أشبه بالقفل المحكم، بحيث لا ينفذ إليه شىء.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى في آية أخرى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} [24: محمد] {وَعَلى سَمْعِهِمْ} أي وختم على سمعهم، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} والختم على السمع: الضرب عليه بحجاب، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل، فهم أشبه بالنائم المستغرق في نومه، حواسه كلها سليمة، ولكنها معطلة لا تعمل في تلك الحال.. كما يقول سبحانه وتعالى في أصحاب الكهف: {فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [11: الكهف].{وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ}.أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة، تضطرب في مجال الرؤية، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى.وهذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين، إنما هى تجسيم لطبائعهم النكدة، وعقولهم المظلمة! وإلا فإن آذانهم مرهفة، وأبصارهم حديدة، ولكنهم لا يحصّلون بها خيرا، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى.ويثار هنا قول، هو: ما لهؤلاء الكافرين إذ لم يهتدوا إلى الإيمان وقد عطل اللّه مداخل الإيمان إلى كيانهم؟.وهذه مسألة كثر فيها الرأى، واختلف عليها العلماء، حتى صار المسلمون فيها فرقا، من سنية، ومعتزلة، وشيعة، وخوارج.والرأى في هذا أن يفوض الأمر كله للّه.. فالخلق خلقه، والناس عبيده، يقضى فيهم بحكمه كيف اقتضت إرادته.. كما في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن] وكما يروى في الحديث الشريف: عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب- رضى اللّه عنه- سئل عن معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ} [172: الأعراف] فقال عمر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، سئل عنها فقال: «إن اللّه عز وجل لمّا خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح على ظهره بشماله، فاستخرج منه ذريته، فقال: هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه: ففيم العمل؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: إن اللّه عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار».هكذا قضى اللّه في عباده، فريق في الجنة، وفريق في السعير.. ومن حكمة اللّه ولطفه بعباده أنه لم ينكشف الأمر لأىّ من الفريقين، فلا أحد من أصحاب الجنة يعلم أنه من أصحاب الجنة، ولا أحد من أهل النار يعرف أنه من أهل النار، بل الجميع مدعوّون من عند اللّه إلى أن يعملوا على مرضاته، ليفوزوا بالجنة.. وهنا يبدو مجال العمل للجنة فسيحا يسع الناس جميعا، فيسعى كلّ سعيه، فمن كان من أهل الجنة عمل عمل أهل الجنة حتى يبلغها، ومن كان من أهل النار عمل عمل أهل النار حتى يدخلها «وكلّ ميسّر لما خلق له».!!